نحنُ من سمَّاهم الله الآخِرين
هل تشعر حقاً بالزمان؟ لا أكلمك عن الزمان اليومي من دقائق وساعات وأيام، بل أحدثك عن زمان البشرية، هل لديك حاسة الشعور بالزمن، قد تتعطل هذه الحاسة المهمة فقط إن أدخلت في عقلك معلومة غربية (وفرة الزمان)، هذه المعلومة التي أتتنا من الغرب كفيلة بإلغاء وتعطيل حاسة الشعور بالزمن لدينا، فالأُمِّيين الذين لم يُنزِّل الله عليهم الكتاب ظنوا أننا نعيش منذ ملايين السنين وأن البشرية أمامها ملايين السنين وكأن هناك وفرة لا محدودة في الزمان، هذه الوفرة الزمانية لم تخرج من الأُمِّيين في الغرب بل من الأمِّيين في الشرق أيضاً، الذين يقولون أن الإنسان يعيش ويموت ثم يرجع ليعيش في صورة إنسان آخر أو حيوان وهكذا بعدد لا محدود، إنهم اتفقوا على وفرة الزمان وأنه لا حدود للوقت، هذا لأنهم أيضاً ظنوا أنه لا حدود للمكان، ظنوا أن بإمكانهم السفر للفضاء أو السماء والعيش خارج الأرض، إن عقولهم تعمل خارج حدود الزمان والمكان الذي وضعه الله للبشرية.
استطاع الشرقُ (الهندوسية والبوذية) والغربُ أن يُفقِدوا الناس شعورهم بالزمن، وأول معلومة مهمة وطارئة هي أن الزمان التي توفَّر لنا نحنُ البشر محدود ومُحدد، فحينما أراد الله أن يجعل في الأرض خليفة، لم يعطيه الخلود أو وفرة الزمان، بل إن كل إنسان له كمية صغيرة من الوقت، تماماً مثل الكمية الزمنية البسيطة التي أُتيحت للبشرية كاملة، إننا لا نعيش في بحبوحة الزمان كما تصوَّر الأُمِّيين في الأرض، بل إن لدينا رصيد زمني محدود ومُحدد سلفاً يبدأ منذ آدم وحتى عصور الآخِرين وصولاً إلى الساعة.
إن كلمة (الساعة) بحد ذاتها علامة على أن البشرية لا تتمتع بوفرة زمانية، بل لها ساعة ينتهي عندها فصل الحياة الدنيا انتهاءاً جبرياً لا رجعة منه، فكيف يمكن لك أن تؤمن بالساعة وفي نفس الوقت تعتقد بأننا نعيش في فوضى زمانية لا تدري فيها كم عشنا على الأرض وكم بقي لنا فيها، وحينما تسير على الكتاب، وتنهل من العِلم المكنون فيه، تُدرك أولاً أننا نحظى بفرصة زمنية نادرة وعظيمة ومحدودة أيضاً، إننا نحظى بتجربة، والتجربة لها وقت، لا توجد تجربة أبدية، التجربة مُؤقتة ذاتياً، وحينما ينتهي التوقيت تتوقف عن العمل، الخلود والأبدية من صفات عالم الجزاء (الآخرة) وليس عالم الاختبار، فلا يمكن أن يكون الاختبار دائماً وباقياً لملايين السنين.
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿٩٦﴾ سورة البقرة
كم هو أقصى طموح زمني يمكن للإنسان أن يحلم به؟ مائة سنة من العيش؟ أم مائتين؟ يُخبرنا القرآن الكريم أن الإنسان لا يمكنه أن يستوعب أكثر من (1000) سنة، بعدها يُصبح الزمان مُكرر تماماً، لماذا اقتصر طموح بعض الناس عند رقم ألف سنة فقط ولم يحلم أحدهم بأن يُعمِّر عدة آلاف من السنين ليطول التاريخ الإنساني كله من آدم حتى النهاية، فالشيطان مثلاً طمح وحلم أن يُنظره الله إلى يوم يبعثون، وهو بذلك تفوق على الإنسان في طلب فرصة زمانية أطول، ولقد عاش إنسانٌ واحد من البشر هذا الرقم بالفعل، وهذا يدل على أنه لم يكن أمراً مستحيلاً، بل جربه على الأقل إنسانٌ واحد، وهو نوحٌ عليه السلام، وحينما عاش نوحٌ ألف سنة، لماذا لم يطلب أن يعيش ألفاً أخرى؟ أليس للإنسان الرغبة في الاستمرار في الوجود؟ أليس الإنسان يطمع في واديين من ذهب لو أن له وادٍ واحدٍ؟ إذن لماذا لم يطلب نوحٌ عليه السلام من ربه ألف سنة أخرى؟
إن الجواب بسيطٌ وهو أن الألف سنة عُمر الأمة والحضارة من بدايتها حتى زوالها، فلو عشتَ ألف سنة وشهدت انقراض أمة أو حضارة فما هو المتوقع من الالف سنة الثانية؟ وهل الدنيا حسنة لدرجة أن تطلبها هذه الفترة الطويلة؟ بالطبع إن الدنيا ليست حسنة لدرجة أن تُعمِّر فيها وقتاً يُكافئ وقت الأمم والحضارات، فلم يصل فردٌ في عُمره إلى عُمر أمة وحضارة مثلما حصل مع نوح، الذي تَساوَى عُمره الشخصي الفردي مع عُمر أمته وحضارته، ورؤية نوح لنهاية وموت هذه الحضارة والأمة لن يجعله يطمع في الحياة ليرى بزوغ حضارة جديدة تعيش ألف سنة أخرى حتى تصل لتوقيت موتها أيضاً.
إننا الآن نحن في آخر الزمان، ليس الزمان نفسه، فالزمان مفتوحٌ وأبدي، والزمانُ بحد ذاته مستمرٌ عند رب العالمين لا ينتهي، إننا نعيش آخر زمان التجربة المؤقتة للجنس البشري على الأرض، فالمشكلة ليست في الزمان نفسه، بقدر ما هي في التجربة الإنسانية، التجربة المؤقتة منذ بدايتها، والمعهودة بالفناء والزوال دوماً، ولأن التجربة الإنسانية الآن على الأرض أصبحت سيئة وخبيثة وبشعة، فهي تسير نحو حتفها أسرع من المعدل الطبيعي، من ناحية لأن فساد الشيء يُعجل بفنائه، فالشيء سيفني لا محالة، ولكن فساده يُعجِّل بفنائه، ومن ناحية أخرى إننا نعيش فعلياً في آخر الزمان لأن جميع ما تم ذِكره في القرآن الكريم قد أخذ مساحته في واقع الأمم الأخِرين، أي تكرر وتحقق، فما فعله جميع الأقوام الأولون في القرآن تكرر في الآخرين من جديد، ليتشابه الفصل الأول من التاريخ الإنساني (الأولين) مع الفصل الثاني والأخير (الآخِرين) في السوء والفساد والمصير.
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ﴿٤٩﴾ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴿٥٠﴾ سورة الواقعة
إن البشرية تسوء يوماً بعد يوم، والأجيال الجديدة تُصبح أسوأ وأخبث من الأجيال السابقة، هذا لا ينفي أن في كل جيل عباد لله، لكن عموم صفات الجيل الجديد تكون دوماً أكثر سوءاً وشراً ممن سبقهم، ولذلك حينما أخبرنا الله عن فئة المُقربين أخبرنا أنهم ثُلة من الأولين وقليلٌ من الآخِرين، لماذا تناقص عدد المُقرَّبين بشكل حاد في الآخرين عن تعدادهم في الأولين، رغم أن الآخِرين أكثر عدداً من الأولين، وهذه مفارقة مخيفة، إن عدد الناس في الأمم الأولين قليل مقارنة بعدد الناس في الأمم الآخِرين، ومع ذلك فإن عدد المقربين في الأولين أكثر منهم في الآخرين، هذا يعني أن الآخِرين يزدادون انحرافاً شديداً عن نهج آدم، وكلما تقدم الزمان أصبحت قصة آدم والشيطان ونوح وإبادة الأمم نسياً منسياً، حتى تقوم الساعة على شرار الخلق.
بما أننا الآن في الآخِرين ولازلنا نتذكر آدم والشيطان، ولازال بيننا القرآن الكريم فهذا يعني أننا من الفرص الأخيرة، لأنه سيأتي زمانٌ بعدنا لن يكون فيه قرآنٌ ولا دين ولا شيء، وهذا يعني أن أي تفسير وتدبر وتجديد في الدين نقوم به في زماننا ربما يكون الأخير، لأن انحراف السلالات يسير بقوة نحو التخلي عن كل ما هو آدمي، التخلي عن كل ما كرَّم الله به آدم، حتى يُولِّي البشر الذين ستقوم عليهم الساعة شراراً لا يسمعون ولا يعقلون!
لا اله الا الله